على مدار عقود عانى فيها المصريون من حكم استبدادي جثم على الصدور لم يترك لهم فرصة لإلتقاط الأنفاس ولا مخرج فانصرفوا إلى متابعة أمور حياتهم اليومية، بينما انصرف آخرون إلى الهجرة. هجرة خارج حدود الوطن، وأخرى خارج حدود الزمن فعادوا القهقرى إلى الوراء حيث أزمنة غابرة خلت كنوع من الهروب من واقع قاتم وكمحاولة أيضاً لاستعادة هذه الحقب الزمنية الفائتــة لتطبيقها فى الواقع بالقوة، إن اقتضــت الضرورة ذلك.
في إطار الحديث عن وطن تبدو ملامحه بين أبناء هجروه خارح الحدود سواء كانت هذه الحدود جغرافية أو تاريخية، وبين كتلة جماهيرية عريضة مهمشــة، ونخبة بدلاً من أن تمارس دوراً فى تحريك وتشكيل هذه الكتلة انصرفت عنها متوقعقة على ذاتها فى أبراجها العاجية "بكل تنظيراتها" أو بتملق الحاكم والتمرغ فى تراب السلطة؛ يتضح لنا أن ثمة رابط قد فقد بين جماهير الشعب فلم يعد يجمعهم شىء سوى انتصارت فريق الكرة. شعب تجمعه الكرة. يفرح لانتصارتها ويحزن لاخفاقاتها. أعلام الوطن لاترفرف إلا فى ظل مناسبة كروية مظفرة !
إلا أن أحداً لم يكن ليتصور أن مجموعة كبيرة من شباب الوطن وقد تحلوا بروح عصر جديد يتميز بالتقدم فى كل شىء خاصة فى وسائل الاتصال، وتخلصوا من إحباطات جيل الآباء وتمكنوا من إيجــاد الآلية التى ستسهم فى عودة الروح للجماهير التائهة، الشباب الذى وعى على واقع مرير يغلل أعناقهم، فلم يكن من بد سوى الهروب كأسلافهم. ولكنهم هنا هربوا لإيجاد الحل عبر تدشينهم لميادينهم الخاصة على الشبكات الاجتماعية. جيل كامل هرب من واقع مؤلم الى فضـــاء لاتحده حدود. تواصلوا بأصابعهم على "لوحات المفاتيح" أفرغوا هموهم أنشأوا ما يمكن تسميته "بالعقــل الجمعى الرقمي ". أعدوا الخطة، خطة اعادة إحياء وطن، فــكان الميــــدان.
للتـــحرير ميدان
قلنا أن ثمة رابط كان مفقوداً بين جماهير الشعب، فجاء الميدان الذى كان مسرح العرض الحقيقي لبروفة "الميدان الافتراضي" الذى دشن على الشبكات الاجتماعية بواسطة الشباب. الشباب الذي أسماه أباطرة النظام السابق من قبل "شباب الفيس بوك" على سبيل السخرية منه. الميدان الحقيقى كان بمبادرة الشباب، إلا أنه جمع حوله كل فئات الشعب، صغيره وكبيره ورجاله ونساءه ومسلميه ومسيحيه. الميدان كان هو الرابط الذى طال تيه الجماهير عنه والذى أعاد وحدتها مرة أخرى. الميدان كان التحرير، تحرير الوطن وتحرير الانسان المصرى أيضاً. وعلى مدار الثمانية عشر يوماً التى أطاحت بالنظام كان الميدان بمثابة البوتقة التى صهرت بداخلها كل أطياف المجتمع وكل التوجهات الأيدلوجية المختلفة تحت شعار ومطلب واحد.
الميدان المشار إليه هنا ليس فقط التحرير بالقاهرة، بل كل ميادين التحرير فى مختلف أنحاء المحروسة. فالبتوازى كانت ميادين السويس والاسكندرية والمنصورة والمحلة وبعض محافظات الصعيد ,إلا أن عدداً من الاسباب أدت إلى ظهور طريقة خاصة فى التعامل مع ميدان التحرير بالقاهرة يمكن اجمالها كالتالي:
- أن الثورة ذاتها تم تسويقها وتصديرها للخارج عبر ميدان التحرير بالقاهرة وتم التعامل مع الميدان على أنه- الثورة والعكس.
- أن ميدان التحرير كان بمثابة المحرك لكل ميادين التحرير الأخرى. فتحددت أفعالها وتحركاتها بناء على ما يصدر من التحرير. وهذا استمر بعد أيام الثورة الأولى فى عدد كبير من الأحداث أبرزها اعتصام أبريل ويوليو وأحداث محمد محمود؛ مما أعطى للميدان ميزة تفضيلية عن بقية الميادين.
- أن أدبيات الثورة المصرية والتعاطي الاعلامي معها على المستوى المحلي والدولي أيضاً تناولت الميدان بنوع من القدسية ونصبته كأيقونة متقدة لكل المناضلين والمطالبين بالحرية. بل أن اسم الميدان أصبعلامة مسجلة وتم تداوله فيما بعد على نطاق واسع فى عدد كبير من الاحتجاجات والثورات التى عصفت ببعض الدول الاخرى.
- يكمن السبب الأخير فى موقع الميدان الجغرافي في قلب القاهرة النابض؛ مما يجعله محط أنظار الجميع. كان له أبلغ الأثر فى تأثير الميدان على غيره.
لكل هذه الأسباب السالف ذكرها يتبين لنا أن لميدان التحرير بالقاهرة وضعية مميزة عن باقي الميادين، إلا أنها لم تصل بعد "فى تقديرنا" لدرجة المركزية ؛لأن ثمة حقائق تبرز لنا مؤكدة أن الميدان لم يكن سوى واجهة الثورة ليس أكثر؛ فواقعة مقتل "خالد سعيد" والذي تعد وفاته بمثابة فتيل الثورة حدثت فى الاسكندرية. وكحقيقة أن أول شهيد سقط فى الثورة كان فى ميدان الأربعين بمدينة السويس. وتكمن أهمية عدم التعامل مع ميدان التحرير كمركز الثورة لتفادي تحوله "وحده" لأداة ضغط قد تعبر فقط عن مجموعة بعينها وليس عن أغلبية الجماهير ولأنه لا يعقل أن نقضي على المركزية بمركزية شديدة قد تكون أشد وطأة من سابقتها لكونها مركزية طغمــة هذه المرة.
الإســـكندرية ... شــرارة الثورة:
في شهر يونيو 2010، أي قبل قيام الثورة بشهور قليلة انتشــر خبر مقتــل الشاب" خالد سعيد" على يد أمناء شرطة فى الاسكندرية بعد أن قاما بتعذيبه حتى الموت. ليكون بوفاته أحد أبرز أسباب التعجيل بقيام الثورة. ودشنت صفحة على موقع الفيس بوك تحمل اسمه لتصبح واحدة من أنشط الصفحات السياسية وأحد الصفحات الداعية لتظاهرات 25 يناير. ومنذ وفاة "خالد سعيد"والاسكندرية تعج بالمظاهرات والوقفات الصامتة بالملابس السوداء التي امتدت لمدن أخرى متفرقة ,ٍإلى أن وقع حادث تفجير كنيسة القديسين بمنطقة بسيدى جابر. ومن بعده وفاة "سيد بلال " إثر تعذيبه أثناء التحقيق معه بنفس الوحشية التى توفي بها "خالد سعيد" فبدا وكأن الاسكندرية على صفيح ساخن.
إبان الثورة مرت الاسكندرية بمرحلتين :
2.1 فى أيام الثورة الأولى "جمعــة الغضب"
يقول الناشط السياسي محمد رخا أثناء معاصرته للثورة في الاسكندرية " قبل يوم جمعة الغضب اجتمعت اللجنة التنسيقية للحـركات السياسية للإعداد لهذا اليوم. وتم الإتفاق على تقسيم الشباب لمجموعات صغيرة تخرج من أحياء مختلفة وتحاول استقطاب الناس عقب صلاة الجمعة ولأسباب أمنية لم يتم الإعلان عن الأماكن المحددة لكل مجموعة سوى صباح يوم الجمعة والذى شهد انقطاع عام فى جميع وسائل الاتصال وأصبح نزول المجموعات عشوائياً ويعتمد على القرب الجغرافى لمنازل الناشطين بعضهم البعض". ويضيف: "خرجت المسيرات من أحياء مختلفة ومن شوارع عدة وكانت تلتحم ببعضها البعض سريعاً وتتزايد الأعداد بشكل مضطرد، أماكن التجمع التلقائية كانت الشارعين الكبيرين فى الإسكندرية وهما شارع الكورنيش وشارع أبو قير، وفي النهاية بعد عبور المسيرات للمنطقة الشمالية وقسم سيدى جابر، تلتحم جميعها على طريق الكورنيش وتبدأ فى الاتجاه ناحية المحافطة ".
وعن أبرز أماكن خروج المسيرات يقول "رخا": يصعب تحديد الأماكن بدقة نظراً للعشوائية التى شابت اليوم ولكن أبزر الأماكن هي:
- سيدي بشر والعصافرة
- بكوس وفلمنج
- القائد إبراهيم
- محرم بك وبحري
وعن علاقة الإسكندرية بميدان التحرير أثناء تلك الأيام، يقول "رخــا": لم يكن ميدان التحرير سوى أحد الميادين ولم يهتم أحد بأخبار الميادين الأخرى خاصة فى ظل حالة انعدام وسائل الاتصال والإنترنت وقتها." ونضيف من جانبنا أن ميدان التحرير ذاته لم يكن قد وقع بعد فى أيدي الثوار الذين كانوا يخوضون معارك ضارية فى أنحاء وميادين أخرى فى القاهرة مع قوات الأمن المركزى حتى نزول قوات الجيش مساء يوم جمعة الغضب.
1. 2 ما بعــد ما موقعة الجمل وحتى يوم التنحــي
بعد موقعة الجمل "والتى تعتبر آخر مواجهة مع النظام البائد" خلى الميدان تماماً للثوار وظهر نجمه الذى سطع طاغياً على باقى ميادين التحرير,وأصبح قبلة يتخذها الجميع ,وكعبة يحلم بالطواف حولها كل ثائر مصرى. فمحمد رخا يكمل شهادته قائلاً: "فى الأيام التالية لموقعة الجمل ، صار ميدان التحرير بمثابة قلب الثورة النابض، وأصبح الجميع يتابع أخباره لحظة بلحظة ومستعداً للدفاع عنه بكل غال ونفيس".
ليس هذا فحسب، بل بدأت عمليات هجرة جماعية من ثوار الاسكندرية نحو ميدان التحرير. يقول رخــا: " فى الأيام اللاحقة تزايدت أعداد المهاجرين من الإسكندرية إلى ميدان التحرير وأنا واحد منهم فقد رأينا أن زيادة الأعداد فى ميدان التحرير أهم من تواجدنا فى مسيرات فى الإسكندرية ". لنصل فى النهاية إلى نتيجة مفادها والكلام لرخا "أن ثبات ميدان التحرير هو الضامن الوحيد للثورة" .مع إستمرار المسيرات والاعتصام فى الإسكندرية فى الوقت ذاته وإن ارتبطت إرتباطا" وثيقاً بما يحدث ويصدر عن ميدان التحرير.
الســويس ... بلد المقاومــة والثورة
قد لا يذكر الكثيرون الآن أن أول شهيد سقط فى الثورة المصرية كان فى مدينة السويس، مفجراً بموته حماس وغضب الملايين فى باقى أنحاء الجمهوري. السويس التى تحظى بحب وتقدير شديدين من جميع المصريين منذ أن صمدت أمام العدوان الصهيوني فى أعقاب حرب أكتوبر قُدر لها أن يكون لديها نفس القائد الذى قاد علميات المقاومة الشعبية ضد الاحتلال وهو الشيخ "حافظ سلامة" الذي قاد هو أيضاً الجموع الثائرة من أبناء بلد الغريب ضد مغتصب ومستبد هذه المرة .
كانت السويس فى ساعات الثورة الأولى مثلها مثل المدن المصرية الغاضبة فى كل مكان فى أرض مصر المحروسة فى ذاك الوقت. يقول "أمير أحمد" أحد شباب الثورة فى السويس عن يوم 25 يناير: "بدأ ذلك اليوم فى ميدان الأربعين عادياً جداً إلا من تلك التجمعات للمئات من الساخطين على نظام الحكم وسياسات القمع السائدة فى مصر وممارسات الداخلية ضد الشعب. ثم بدأت تلك الأعداد تتجه باتجاه مبنى المحافظة وميدان الأربعين وقد أخذت فى الازدياد. ولجأت الشرطة إلى استخدام العنف لفض المتظاهرين فقامت قوات الامن المركزى بإلقاء القنابل المسيلة للدموع ورشاشات المياه والطلقات المطاطية والخراطيش". ويضيف أمير: " بعد اعلان وفاة ثلاثة شهداء ومئات المصابين، تيقنت أن الأمر لن يمر مرور الكرام وقد تحول المشهد في الاربعين من تظاهرات سلمية الى ثورة غضب".
وعن السويس أثناء يوم جمعة الغضب، يقول أمير: " كانت قوات الشرطة قليلة بعض الشيء عن الأيام السابقة وإن تم سحب اعداد كبيرة منهم الى المحافظة وقسم السويس. وبعد صلاة الجمعة نزل عشرات الآلاف إلى الشارع السويسي بغضب لا مثيل له، وقابلت قوات الأمن المركزي الأعداد بالضرب وقنابل الغاز ولكن لم يتراجع أحد. كان السوايسة على قلب رجل واحد، قاومنا عنف الشرطة حتى انسحبت مخلفة وراءها العربات والمدرعات، وبعدها بقليل تمت السيطرة تماماًعلى ميدان الأربعين ليقوم الشيخ "حافظ سلامة" ببدء تشكيل اللجان الشعبية ".
أما فيما يخص العلاقة بين السويس وميدان التحرير، يقول أمير: "بعد انتهاء يوم جمعة الغضب وسيطرة الثوار بشكل كامل على ميدان التحرير، بدأ دوره الحقيقى وأصبح هو قلب الاحداث من وجهة نظري". أما بخصوص سيطرة ميدان التحرير على نصيب الأسد من إهتمام الاعلام المحلي والعالمي، فيــرى أمير أن ذلك "طبيعي بشكل كبير نظراً لتأثيره وانتقال معظم الثائرين إليه من مختلف ميادين التحرير فى الجمهورية".
في خلاصة عرضنا لأحداث الثورة فى أبرز ميادين التحرير المصرية بقي أن نقول إن ذلك العرض لم يكن إلا لتأكيد فكرة أن الثورة كانت شعبية بإمتياز، بمعنى أنها لم تكن ثورة نخبة مهما كانت ماهية هذه النخبة. وإذا كان ميدان التحرير قد أصبح قبلة الثائرين الباحثين عن الحرية والانعتاق من ربقة الاستبداد وصار عنواناً تهوى إليه الأفئدة المتعطشة لجرعة أمل فى الخلاص,فمن الأهمية بمكان أن نذكر أنه ما كان ليحصل على هذه المكانة لولا الجماهير الثائرة التى نصبته قبلتها متحدثاً بإسمها، معبراً عن آمالها, ومؤكداً لأهدافها, في ثورة بيــضاء كان سلاحها الأبرز هو قوة هتافات مشعليها. فظهرت الحاجة لتوحيد هذه الهتافات التى بدورها تعبر عن المطالب التى اتفق عليها الجميع، فكان لا بد فى النهاية من توحيد الميدان حيث يصبح رمزا" للثورة ... والثوار. قام المصريون بثورة ملهمة أسقطوا فيها خلال ثمانية عشر يوماً واحداً من أعتى الأنظمة إستبداداً؛ لأنهم آمنوا بفكرة. والميدان كان حاضناً لتلك الفكرة، ولم يكن يوماً.. مركزها.